بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
موضوع فقه الأسرة، هو موضوع واسع وعميق. ومن
المغامرة الحديث عنه في مقال واحد، كما أنه من الصعب الحديث عن قضايا الأسرة من
بوابة القانون، وذلك لتعلّقه بأعراض الناس وذممهم وما يستتبعه من إلحاق النسب
وضمان الحقوق والواجبات للأشخاص، وبموازاة ذلك ما يعكسه من مضمار لتنازع المرجعيات
الفكرية والقيم الحضارية..
ولكن ما يشفع لي في الحديث في هذا الموضوع،
أن مشروعي الذي تقدّمت به لنيل درجة الدكتوراه بدار الحديث الحسنية بالرباط، تحت عنوان: "أحكام الأسرة بين القانون
المدني الغيني والمذهب المالكي: دراسة في تنازع المرجعيات"، مكّنني في تحصيل
رصيد معرفي قانوني، ممّا دفعني للإسهام في إعادة تصحيح القضايا الاجتماعية للبلاد
من بوابة القانون؛ متشبثا بالتراث الفقهي الإسلامي، والعرف المحلي.. ذلك أن الشعب
الغيني يتّخذ من الإسلام والعرف نظام حياة له.
مكانة
الأسرة في المجتمع الغيني..
تشكّل الأسرة في القارة السمراء ركيزة "للاجتماع
البشري" مما يؤهلها لأداء دور أساسي في بناء المجتمعات الإفريقية بفضل
أعرافها وتقاليدها، ويتحكّم فيها الأكبر فالأكبر سناّ في اتخاذ القرارات الحاسمة
وباعتباره مستشارا، وهي مجال التعاون والتضامن بين أعضائها..
ونظرا لمكانة الأسرة في بناء المجتمع، أولت الدولة
الغينية أهمية بالغة لقضاياها ومتعلقاتها، إذ أسّست مصلحة خاصة بأحوال الأسرة في
الوزارة المعنية بالشؤون الاجتماعية..، بهدف رعاية الأسرة الغينية، والسهر على
حقوق الأشخاص..
ففي عام 1990 تقدّمت وزارة الشؤون الاجتماعية
والنهوض بأوضاع المرأة والطفولة بمقترح من النصوص القانونية تخص القضايا الأسرية ومتعلقاتها قصد إدراجها ضمن
القانون المدني الغيني، فسميّت بمدونة الأشخاص والأسرة - Code des personnes et de la famille-
ويبقى أهم شيء عنيت به الدولة،
هو تقنين أحكام الأسرة ضمن القانون المدني الغيني-Le code civil guinéen-، الذي ينظّم أوضاع الأسرة حقوقا وواجبات فيما بين
الأزواج، أو فيما بينهم وبين أبنائهم، أو فيما له صلة بالأسرة منذ عهد الاستقلال
وبناء الدولة الحديثة بغينيا كوناكري..
مدونة الأسرة الغينية:
اصطلح
على الأحكام التي تنظم العلاقات الأسرية بأبواب الأنكحة أو المناكحات في الفقه
الإسلامي، كما يصطلح بقانون الأحوال
الشخصية أو مدونة الأسرة على حسب الدول، فهو الذي يحكم أوضاع الأسرة تأسيسا وآثارا،
أي حقوقا والتزامات فيما بين الأزواج، أو فيما بينهم وبين أبنائهم، بل وهو الذي
يحكم انتهاءها كذلك.
وتتفاوت الدول فيما بينها من حيث التنظيم والمرجعية
لقانون الأحوال الشخصية حيث شهدت بعضها إصلاحات مستمرة في هذا المجال لأسباب تختلف
من دولة لأخرى.
وبالنسبة لغينيا كوناكري، قد عرفت مدونة الأحوال الشخصية عدّة أسماء واكبت
تعديلات المدونة، فحملت المدونة الأولى اسم le Code des personnes et des libéralités ، والتي صدرت عام 1961 وحملت الثانية اسم Code Civil Guinéen- أي القانون المدني الغيني- والتي عدّلت في يناير 1999 أيّام الرئيس
لنسنا كونتي.. وهكذا إلى أن تمّ إطلاق مشروع مدونة الأشخاص والأسرة - Code des personnes et de la famille- والتي لم ترى النور بعد.
ولقد جاءت فكرة هذه المدونة من وزارة
الشؤون الاجتماعية والنهوض بأوضاع المرأة والطفولة لتصحيح بعض التجاوزات والهفوات
التي وقعت في القانون المدني الغيني،
وضمّت 878 مادة قانونية تخص الأسرة والأشخاص، وخصّت منها 705 مادة لقضايا الأسرة وذلك
من المادة 174 إلى المادة 878.
وبالنظر إلى تنزيل القانون المدني على
المجتمع الغيني؛ يظهر لنا جليا أن فيه الكثير مما يتنافى مع ثقافة المجتمع بما في
ذلك دين غالبية الشعب (الإسلام)، ونلمس فيه صراعا حقيقيا على مستوى التشريع بين
مرجعيتين متنافرتين في الرؤية والمنهج "للاجتماع البشري"، ويبرز ذلك في صياغة
أحكام القانون المدني الذي يتعارض مع مرجعية المجتمع المتّخذ من الدين نظام حياة له.
مثاله ما
جاء في المادة (289 م. غ) ما نصّه: "يمنع الزواج من الأقارب أصولا كانوا أو فروعا أو حواشي".
ويظهر
جليا أن في هذه المادة تضييقا وتقصيرا في تحديد المحرمات من النساء، حيث
حصرتهنّ فيمن ذكر دون سواهن من النساء، وفيه إباحة للزواج بمن دونهن، وهذا مخالف
للشريعة كما سنرى عند المقارنة.
ومن
القضايا التي ينبغي الوقوف عندها في القانون المدني الغيني، مسألة الشقاق بين
الزوجين والتطليق للضرر..
جاء في
المادة (341) ما نصّه: " يجوز للزوج طلب الطلاق بمجرد اتهام
زوجته بالزنا"، وتقول المادة (342): "وكذلك المرأة".
ويلاحظ
من المادتين السابقتين تسرّعهما في حلّ الرابطة الزوجية بمجرّد التهمة في الوقت
الذي كان من المفترض أن تحرص المادتان على ديمومة الزواج واستمراره إلا في حالة
وجود أدلة قاطعة تقتضي إنهاء العلاقة الزوجية، في حين أن الدين الإسلامي قد شدّد
في أعراض الناس؛ بأن طالب المدّعي أربعة شهود لإقامة الحد، بينما القانون المدني الغيني
لم يفصّل القول في إثبات التهمة، وجعلها كافية لطلب الطلاق دون تقييدها بالثبوت،
ممّا قد يجلب للزوجين أضرارا كثيرة قد تؤثّر على الأولاد-إن وجدوا- وعلى كل من له
بهما علاقة قرابة أو مصاهرة ومن ثمّ تهديد السلم الاجتماعي.
وتقول
المادة (344): "وللقاضي التصريح بالطلاق بطلب من أحد الزوجين للضرر، أو الرفض
المستمر لأداء الواجبات الزوجية، أو الإساءة إلى كرامة أحدهما، أو كل ضرر لا
يستطاع معه دوام المعاشرة الزوجية".
وهنا
أيضا تقصير من القانون المدني الغيني بخصوص "الضرر" الذي يدّعيه أحد
الزوجين أن زوجه يلحق به ضررا أو أذى، صحيح أن الفقه الإسلامي يجيز التطليق للضرر،
"والغالب أن الزوجة هي التي ترفع دعوى الضرر.. من زوجها يضر بها إما بالضرب،
أو السبّ، أو بالهجر من غير سبب، أو بالامتناع عن الكلام معها، أو يعرض عنها أثناء
النوم، أو غير ذلك مما فيه ضرر حسب ما يقتضي به العرف" من "الضرر الثابت"، وهو الذي لم يفصّله القانون المدني
الغيني.
وبالجملة،
هذه من بين العناصر التي حفّزتني للخوض في هذا المشروع بحثا عن ما عليه العمل في المجتمع الغيني من مسائل قضايا الأسرة؛
مع اقتراح البدائل التي نراها تسهم في حماية الأسرة الغينية واستقرارها.
ولا يتحقّق ذلك إلا بمعالجة الموضوع من الناحيتين -الشرعية والقانونية- اللتين لم تحظى بعناية
الباحثين؛ فكان من الضروري إعداد دراسة تستوعب الجانبين معا.
فنسأل الله تعالى أن يوفّقنا للقيام بهذه المهمّة لإعادة
النظر في القانون المدني، ومحاولة تقريبه إلى القيم والنظم التي تتماشى مع النمط
الغيني المسلم.
فمرحبا بكل الآراء والمقترحات، والإنتقادات البنّاءة..
محمد تفسير بالدي
باحث دكتوراه في الدراسات الإفريقية
المراجع:
1)
LOI
FONDAMENTALE de la Guinée
2)
CODE CIVIL DE
LA REPUBLIQUE DE GUINEE
3)
Étude
situationnelle sur la famille en Guinée/ Docteur Alpha Amadou Bano Barry,
Réalisée par l’Observatoire, Université de Conakry, Guinée, juillet 2006.
4) أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية وفق
مدونة الأحوال الشخية/ تأليف: محمد بن معجوز المزغراني، ط3،
1400/1980.
5) التاريخ الإسلامي/ التاريخ المعاصر/ غربي
أفريقية، تأليف: محمود شاكر، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية: 1417هـ
- 1997م.
6) التعليق على قانون الأحوال الشخصية/ الدكتور
أحمد الخمليشي، دار
نشر المعرفة، الطبعة الثالثة.
7) أحكام الأسرة في الإسلام: دراسة مقارنة
بين فقه المذاهب السنية والمذهب الجعفري والقانون/ تأليف: الدكتور محمد مصطفى
شبلي، ط4،
1403هـ/1983م.